عندما قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة جامعة القاهرة وألقى جملته الشهيرة: “مصر أقدم حضارات العالم وأكثر البلاد شباباً، وهذا هو التناقض الذي نراه اليوم في مصر”، لم يكن يتحدث عن مجرد مفارقة عابرة، بل كان يستشرف العمق الجوهري للجاذبية الفرنسية تجاه مصر: بلدٌ يمتد تاريخه لأعماق الزمن، بينما ينبض حاضره بنشاط الشباب الذين يتطلعون نحو المستقبل.
بينما يواصل العلماء الفرنسيون دراسة أسرار المقابر الفرعونية، يركز الشباب المصري على فك شيفرات الذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال. مهما اختلفت اهتماماتهم، يبقى الحوار مستمرًا بين حضارتين: بلد يعتبر مصر مرآة لماضيه وصورة لمستقبله.
منذ أن فك الفرنسي جان فرانسوا شامبليون رموز حجر رشيد، لم تهدأ شغف الفرنسيين بالحضارة المصرية. لم يبق هذا الشغف محصورًا في المتاحف والمعابد، بل تطور إلى علاقة ديناميكية تبحث في حضارات مصر القديمة عن رموز الخلود وفي مصر الحديثة عن نبض المستقبل.
ترجع العلاقة العميقة بين فرنسا ومصر إلى حملة نابليون بونابرت عام 1798، التي رغم طابعها العسكري، وضعت أساسات علمية وثقافية استمرت آثارها حتى اليوم. فقد رافقت الحملة مجموعة من العلماء والفنانين، الذين قاموا بتأليف موسوعة “وصف مصر”، وترافق ذلك مع الاكتشاف الحاسم: حجر رشيد، الذي مهد لشامبليون فك رموز الكتابة الهيروغليفية في عام 1822، مما أسس لعلم المصريات.
منذ ذلك الحين، أصبحت مصر القديمة جزءًا لا يتجزأ من المخيلة الفرنسية، ليس فقط في قاعات متحف اللوفر، بل أيضًا في الكتب والمسرحيات وعروض الأزياء والأفلام.
يقول عالم الآثار الفرنسي جان كلود جولفان في هذا الصدد: “لا يمكن لمؤرخ حضارة أن يتجاهل الحضارة المصرية القديمة.”
تمثل مصر بالنسبة لفرنسا مزيجًا فريدًا من الغموض والخلود، أرضً يعلو فيها الصمت المقدس فوق رمال الأهرامات، لكن يظل شغف البحث والاكتشاف يتجلى فيها.
دعمت فرنسا بعثات أثرية في مناطق مثل الأقصر وسقارة وأسوان، وساهمت في ترميم المعابد والمقابر، وأرسلت خبراء لدعم ملفات تسجيل التراث المصري لدى اليونسكو.
ورغم ذلك، فإن فرنسا لا تكتفي بالاستغراق في دهشة الماضي، بل تنظر أيضًا إلى واقع مصر اليوم. كان تصريح ماكرون في جامعة القاهرة تعبيرًا دقيقًا عن التناقض الحضاري: كيف لبلد عريق كثر فيه الشباب بأعداد كبيرة؟ فعلاً، أكثر من 60% من سكان مصر تحت سن الخامسة والعشرين.
تلك الطاقة الشبابية تقدم للعالم – وخاصة فرنسا – تساؤلات حول المستقبل، التعليم، الثقافة، والهوية، وتعمل على تحفيز شراكات الجامعات، والتبادل الثقافي، والمبادرات الرقمية بين البلدين.
بين ماضٍ يتحدث بالهيروغليفية ومستقبل يتحدث بلغة البرمجة، ترى فرنسا في مصر دولة تواجه تحديات معاصرة سواء في الاقتصاد، البيئة، التكنولوجيا، أو التعليم.
خلال العقد الأخير، زادت باريس من مبادراتها الثقافية والتعليمية في مصر، مثل دعم المعهد الفرنسي، وتوسيع برامج المنح الدراسية، والمشاريع التنموية المشتركة في صعيد مصر وسيناء.
يقول الكاتب الفرنسي روبير سوليه: “الحضارة المصرية غنية ولا يمكن مقارنتها بشيء آخر”. ويبقى السؤال حول لماذا تستمر مصر في إلهام فضول فرنسا. ربما لأن مصر ليست مجرد تاريخ عريق، بل أيضًا حاضر مليء بالتناقضات، ومستقبل مليء بالاحتمالات.
تعليقات